سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في اتصال الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله، وبالجملة فكأنه قيل: إن اشتغلت بتحصيل مشتهياتك كنت لنفسك لا لله، وءن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت صلى الله عليه وسلم لا لنفسك، ولا شك أن هذا المقام أعلى وأشرف، فكانت هذه الآية تأكيداً لما تقدم من التكاليف.
الثاني: أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية، وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة، فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف، أو السبع الذي غاية أمره إيذاء حيوان.
الثالث: أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} [النساء: 3] وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم، وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله، وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي بالباطل. ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة، ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط، شاهدين لله على كل أحد، بل وعلى أنفسهم، فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف.
المسألة الثانية: القوام مبالغة من قائم، والقسط العدل، فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل، وقوله: {شُهَدَاء للَّهِ} أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم، وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران: الأول: أن يقرعلى نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجباً إلزام الحق، والثاني: أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره.
المسألة الثالثة: في نصب {شُهَدَاء} ثلاثة أوجه: الأول: على الحال من {قَوَّامِينَ}.
والثاني: أنه خبر على أن {كُونُواْ} لها خبران، والثالث: أن تكون صفة لقوامين.
المسألة الرابعة: إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه:
الأول: أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن، وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبّه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة، وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولاً، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانياً، تنبيهاً على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير.
الثاني: أن القيام بالقسط عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير، وهو الذي عليه الحق، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير.
الثالث: أن القيام بالقسط فعل، والشهادة قول، والفعل أقوى من القول.
فإن قيل: إنه تعالى قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] فقدم الشهادة على القيام بالقسط، وهاهنا قدم القيام بالقسط، فما الفرق؟
قلنا: شهادة الله تعالى عبارة عن كونه تعالى خالقاً للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية القوامين بالعدل في تلك المخلوقات، فيلزم هناك أن تكون الشهادة مقدمة على القيام بالقسط، أما في حق العباد فالقيام بالقسط عبارة عن كونه مراعياً للعدل ومبايناً للجور، ومعلوم أنه ما لم يكن الإنسان كذلك لم تكن شهادته على الغير مقبولة، فثبت أن الواجب في قوله: {شَهِدَ الله} أن تكون تلك الشهادة مقدمة على القيام بالقسط والواجب هاهنا أن تكون الشهادة متأخرة عن القيام بالقسط، ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد، الإلهي والله أعلم.
ثم قال تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} أي إن يكن المشهود عليه غنياً أو فقيراً فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير، فالله أولى بأمورهما ومصالحهما، وكان من حق الكلام أن يقال: فالله أولى به، لأن قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً} في معنى أن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ، أي الله أولى بالفقير والغني، وفي قراءة أُبي فالله أولى بهم، وهو راجع إلى قوله: {أَوِ الوالدين والأقربين} وقرأ عبد الله: إن يكن غني أو فقير، على (كان) التامة.
ثم قال تعالى: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل، وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر، فتقدير الآية: فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا.
ثم قال تعالى: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور {وَإِن تَلْوُواْ} بواوين، وقرأ ابن عامر وحمزة {تلوا} وأما قراءة تلووا ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون بمعنى الدفع والاعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه.
الثاني: أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم: لوى الشيء إذا فتله، ومنه يقال: التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيهاً بالشيء المنفتل، وأما {تلوا} ففيه وجهان:
الأول: أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به، والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعلمون خبيراً فيجازى المسحن المقبل بإحسانه والمسيء المعرض بإساءته، والحاصل: إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها، والثاني: قال الفرّاء والزجاج: يجوز أن يقال: {تلوا} أصله تلووا ثم قلبت الواو همزة، ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار {تَلْوُواْ} وهذا أضعف الوجهين، وأما قوله: {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيراً} فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}
وفي مسائل:
المسألة الأولى: في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان:
الأول: أنها متصلة بقوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} وذلك لأن الإنسان لا يكون قائماً بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية، وثانيهما: أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة ذكر عقيبها آية الأمر بالإيمان.
المسألة الثانية: أعلم أن ظاهر قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} مشعر بأنه أمر بتحصيل الحاصل، ولا شك أنه محال، فلهذا السبب ذكر المفسرون في وجوهاً وهي منحصرة في قولين: الأول: أن المراد بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} المسلمون، ثم في تفسير الآية تفريعاً على هذا القول وجوه:
الأول: أن المراد منه يا أيها الذين آمنوا آمنوا دوموا على الإيمان واثبتوا عليه، وحاصله يرجع إلى هذا المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحاضر آمنوا في المستقبل، ونظيره قوله: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله} [محمد: 19] مع أنه كان عالماً بذلك.
وثانيها: يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال.
وثالثها: يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجميلة آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية.
ورابعها: يا أيها الذين آمنوا بالدلائل التفصيلية بالله وملائكته وكتبه ورسله آمنوا بأن كنه عظمة الله لا تنتهي إليه عقولكم، وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا تنتهي إليها على سبيل التفصيل عقولنا.
وخامسها: روي أن جماعة من أحبار اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما بما سواه من الكتب والرسل، فقال صلى الله عليه وسلم: «بل آمنوا بالله وبرسله وبمحمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله»، فقالوا: لا نفعل، فنزلت هذه الآية فكلهم آمنوا.
القول الثاني: أن المخاطبين بقوله: {ءامَنُواْ} ليس هم المسلمون، وفي تفسير الآية تفريعاً على هذا القول وجوه:
الأول: أن الخطاب مع اليهود والنصارى، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن.
وثانيها: أن الخطاب مع المنافقين، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب، ويتأكد هذا بقوله تعالى: {مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41].
وثالثها: أنه خطاب مع الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا وجه النهار آمنوا أيضاً آخره.
ورابعها: أنه خطاب للمشركين تقديره: يا أيها الذين آمنوا بالّلات والعزى آمنوا بالله، وأكثر العلماء رجّحوا القول الأول لأن لفظ المؤمن لا يتناول عند الإطلاق إلا المسلمين.
المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ} على ما لم يسم فاعله، والباقون (نزل وأنزل) بالفتح، فمن ضم فحجته قوله تعالى: {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} وقال في آية أخرى: {والذين ءاتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ} [الأنعام: 114] ومن فتح فحجته قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} وقوله: {وَأَنزَلْنَا الذكر} وقال بعض العلماء: كلاهما حسن إلا أن الضم أفخم كما في قوله: {وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ} [هود: 44].
المسألة الرابعة: اعلم أنه أمر في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء: أولها: بالله.
وثانيها: برسوله.
وثالثها: بالكتاب الذي نزل على رسوله.
ورابعها: بالكتاب الذي أنزل من قبل، وذكر في الكفر أموراً خمسة: فأولها: الكفر بالله.
وثانيها: الكفر بملائكته.
وثالثها: الكفر بكتبه.
ورابعها: الكفر برسله.
وخامسها: الكفر باليوم الآخر.
ثم قال تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً} وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب، وفي مراتب الكفر قَلَبَ القضية؟
الجواب: لأن في مرتبة النزول من معرفة الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدماً على الرسول وفي مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدماً على الكتاب.
السؤال الثاني: لم ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسول وبالكتب، وذكر في مراتب الكفر أموراً خمسة: الكفر بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر.
والجواب: أن الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة واليوم الآخر لا محالة، إذ ربما ادعى الإنسان أنه يؤمن بالله وبالرسل وبالكتب، ثم إنه ينكر الملائكة وينكر اليوم الآخر، ويزعم أنه يجعل الآيات الواردة في الملائكة وفي اليوم الآخر محمولة على التأويل، فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم نص أن منكر الملائكة ومنكر القيامة كافر بالله.
السؤال الثالث: كيف قيل لأهل الكتب {والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} مع أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة والإنجيل بل مؤمنين بهما؟
والجواب عنه من وجهين:
الأول: أنهم كانوا مؤمنين بهما فقط وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بكل الكتب المنزلة.
الثاني: أن إيمانهم ببعض الكتب دون البعض لا يصح لأن طريق الإيمان هو المعجزة، فإذا كانت المعجزة حاصلة في الكل كان ترك الإيمان بالبعض طعناً في المعجزة، وإذا حصل الطعن في المعجزة امتنع التصديق بشيء منها، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً} [النساء: 150، 151].
السؤال الرابع: لم قال: {نَزَّلَ على رَسُولِهِ وَأَنزَلَ مِنَ قَبْلُ}.
والجواب: قال صاحب الكشاف: لأن القرآن نزل مفرقاً منجماً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله.
وأقول: الكلام في هذا سبق في تفسير قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل * مِن قَبْلُ} [آل عمران: 3، 4].
السؤال الخامس: قوله: {والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} لفظ مفرد، وأي الكتب هو المراد منه؟
الجواب: أنه اسم جنس فيصلح للعموم.


{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما أمر بالإيمان ورغب فيه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فذكر هذه الآية.
واعلم أن فيها أقوالاً كثيرة: الأول: أن المراد منه الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات، فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم، إذ لو كان للإيمان وقع ورتبة في قلوبهم لما تركوه بأدنى سبب، ومن لا يكون للإيمان في قلبه وقع فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيماناً صحيحاً معتبراً فهذا هو المراد بقوله: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبراً، بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه، وكذلك نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على الفسق، فكذا هاهنا.
الثاني: قال بعضهم: اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى، ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد عليه الصلاة والسلام.
الثالث: قال آخرون: المراد المنافقون، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعاً من المسلمين قالوا إنا مؤمنون والكفر الثاني هو أنهم إذا دخلوا على شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون، وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين، وإظهار الإيمان قد يسمى إيماناً قال تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] قال القفال رحمة الله عليه: وليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم كما قال: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء: 143] قال والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية {بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
الرابع: قال قوم: المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة، والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {ءامِنُواْ بالذي أُنزِلَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخره لعلّهم يرجعون} [آل عمران: 72] وقوله: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام.
المسألة الثانية: دلّت الآية على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وهذا يبطل مذهب القائلين بالموافاة، وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان، فوجب أن يكون الإيمان أيضاً كذلك لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذلك الآخر، وذكروا في تفسير هذه الزيادة وجوهاً: الأول: أنهم ماتوا على كفرهم.
الثاني: أنهم ازدادوا كفراً بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم، وعلى هذا التقدير لما كانت إصابة الذنوب وقت الكفر زيادة في الكفر فكذلك إصابة الطاعات وقت الإيمان يجب أن تكون زيادة في الإيمان.
الثالث: أن الزيادة في الكفر إنما حصلت بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مستهزؤن} [البقرة: 14] وذلك يدل على الاستهزاء بالدين أعظم درجات الكفر وأقوى مراتبه.
ثم قال تعالى: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وفيه سؤالان: الأول: أن الحكم المذكور في هذه الآية إما أن يكون مشروطاً بما قبل التوبة أو بما بعدها، والأول باطل لأن الكفر قبل التوبة غير مذكور على الإطلاق، وحينئذ تضيع هذه الشرائط المذكورة في هذه الآية.
والثاني: أيضاً باطل لأن الكفر بعد التوبة مغفور، ولو كان ذلك بعد ألف مرة، فعلى كلا التقديرين فالسؤال لازم.
والجواب عنه من وجوه:
الأول: أنا لا نحمل قوله: {إِنَّ الذين} على الاستغراق، بل نحمله على المعهود السابق، والمراد به أقوام معينون علم الله تعالى منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه قط فقوله: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إخبار عن موتهم على الكفر، وعلى هذا التقدير زال السؤال.
الثاني: أن الكلام خرج على الغالب المعتاد، وهو أن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه وقع ولا عظم، والظاهر من حال مثل هذا الإنسان أنه يموت على الكفر على ما قررناه.
الثالث: أن الحكم المذكور في الآية مشروط بعدم التوبة عن الكفر، وقول السائل: إن على هذا التقدير تضيع الصفات المذكورة.
قلنا: إن إفرادهم بالذكر يدل على كفرهم أفحش وخيانتهم أعظم وعقوبتهم في القيامة أقوى فجرى هذا مجرى قوله: {وَإِذ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] خصهما بالذكر لأجل التشريف، وكذلك قوله: {وَمَلَئِكَتُهُ... وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98].
السؤال الثاني: في قوله: {لِيَغْفِرَ لَهُمْ} اللام للتأكيد فقوله: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} يفيد نفي التأكيد، وهذا غير لائق بهذا الموضع إنما اللائق به تأكيد النفي، فما الوجه فيه؟
والجواب: أن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم كان المراد منه المبالغة في تأكيد النفي.
ثم قال تعالى: {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} قال أصحابنا: هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان خلافاً للمعتزلة، وهم أجابوا عنه بأنه محمول على المنع من زيادة اللطف، أو على أنه تعالى لا يهديه في الآخرة إلى الجنة.
ثم قال تعالى: {بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.
واعلم أن من حمل الآية المتقدمة على المنافقين قال إنه تعالى بيّن أنه لا يغفر لهم كفرهم ولا يهديهم إلى الجنة، ثم قال: وكما لا يوصلهم إلى دار الثواب فإنه مع ذلك يوصلهم إلى أعظم أنواع العقاب، وهو المراد من قوله: {بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وقوله: {بُشّرَ} تهكم بهم، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف. ثم قال تعالى:

32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39